كما شغلتني “غزوة” ماء المريسع لبني المصطلق والتي اتضح أنها وهمية بعد إخضاعها لمنهج السير في الأرض. فكذبتها الجغرافيا، وسقطت بالتبعية. لذلك جميع الخرافات المسندة على تلك الحكاية وهمية. فإن حصار يثرب من الأحزاب قد شغلني حول أسبابه وتركيبة الأحزاب.
يكاد يتفق الإخباريون والرواة والحكواتية على أن الواقعة قد كانت في شهر شوال من العام الخامس لتهجير النبي من أم القرى. ويزعم الكثير أن سبب الحصار هو إجلاء يهود بني النضير عن يثرب بعد محاولة اغتيال النبي. وأن هؤلاء هم الذين قاموا بتحريض القبائل التي حاصرت يثرب!
ومثل هذا الزعم يجعل من يهود بني النضير قوة مؤثرة تمكنت تجميع جيش قدره البعض بعشرة آلاف مقاتل. لكن مثل هذه الحفنة من يهود بني النضير لا تستطيع هذا، بالنظر لمجريات الأحداث في غرب شبه الجزيرة أثناء احتدام المعارك بين الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية. وعند بداية استرجاع البيزنطيين للأقاليم التي سقطت تحت يد الساسانيين بعد التحاق الأرمن مع البيزنطيين ومهاجمة الساسانيين من الشمال، كما تراجع معه تهديد الساسانيين للشام.
وبعد أن انتهز إيلاف قريش في حبل بني عبد شمس فرصة توفير المسيرة للجيش البيزنطي، عبر طريق البخور، والذي يمتد من عدن إلى بصرى. فقد استبقهم النبي محمد بتهديد مرور قوافل إيلاف قريش عبر المجال الحيوي ليثرب، والمسيطر على قطاع من طريق البخور بمسالكه الثلاث: التبوكي والجانبي والتهامي. بما كانت معه معركة بدر في العام الثاني للتهجير. والتي لم يذهب انتصارها رغم خسارة معركة جبل أحد في العام الثالث. فيما تخلفت قريش عن بدر الموعد في العام الرابع.
كما بقت سيطرة أهل صحيفة المدينة قائمة على ما تحت أيديها من طريق البخور. ولم تفلح حملات أكيدر بن عبد الملك مع قبائل شمال يثرب (والتي قامت بتهديد سلامة سير القوافل التي تتعامل مع أهل يثرب) من فكّ سيطرة أهل الصحيفة على الطريق. إذ كانت السرايا المتوجهة من يثرب نحو الشمال إلى سوق دومة الجندل كفيلة بتبديد ذلك التهديد في ربيع الأول من العام الخامس. وكان مع ذلك بداية بسط نفوذ الدولة الجنينية بيثرب على الأراضي التابعة للغساسنة اليعاقبة الموالين للإمبراطورية البيزنطية الاورثودوكسية.
وبالنظر لجملة هذه المعطيات الجيوسياسية للمنطقة، يستحيل أن يقوم النبي بحملة خاطفة نحو ماء المريسع البعيدة لحوالي 300 كلم عن يثرب، في وقت يعيش على تجميع إيلاف قريش لعشرة آلاف مقاتل من قبائل تهامة وأحابيش كنانة من جنوب يثرب. وبني سليم من الجنوب الشرقي. ومن غطفان على شرقها. ومن بني أسد على الشمال الشرقي. مع إمكانية حصول تهديد ليثرب من جهة الشمال من طرف الغساسنة وأحلافهم كرد فعل على السرايا المتوجهة قبل أشهر قليلة إلى سوق دومة الجندل. بما ينعدم معه إمكانية قيام النبي بعمل متهور بالمسير إلى بني المصطلق لمجرد سماع نبأ التحضير منهم لغزوه بيثرب!
والملفت للانتباه أن كتاب الله قد نعت ائتلاف هذه القبائل بالأحزاب. ومع ترتيل لفظة الأحزاب في كتاب الله يتضح أنها نعت لقرون سبقت من ثمود، وقوم إخوان لوط، وأصحاب الأيكة من جانب. ومن جانب آخر، فهي نعت أيضا لمن اختلفوا حول المسيح عيسى بن مريم، بما يشير إلى إمكانية مشاركة بعض هؤلاء تحت قيادة بني عبد شمس، حلفاء البيزنطيين الأرثودوكس، والغساسنة اليعاقبة، خاصة وأن غطفان قد كان بعضها على اليهودية. وكان بنو أسد على الركوسية. ولم يكن إيلاف قريش بمنأى عن الاختلاف حول عيسى من خلال الشاهد بالخبر القرآني:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) سورة الزخرف
وما لا يفوتنا تذكرة عن فئة الأحزاب من القرون التي سبقت الأحزاب،
التي اختلفت حول ابن مريم، أنهم حاولوا قتل الأنبياء الثلاثة فيهم صالح ولوط وشعيب.
كما فعلتها أيضا الأحزاب التي اختلفت حول عيسى.
ولا يخفى على الفطن عند استقراء التاريخ وجود ميل وهوى من بني عبد شمس إلى المسيحية. إذ قد بقيت آثارها إلى دولة ابن هند ودولة بني مروان من بعده. فيما لم يكن أبو سفيان إلا عميلاً بيزنطياً في أم القرى بعد زوال نفوذ بيزنطة، عبر أبرهة الحبشي في اليمن إثر سقوط دولته على يد الساسانيين.
ولعل عمالة أبو سفيان زعيم إيلاف قريش لبيزنطة وفشل حصار الأحزاب ليثرب هي التي جعلته يمنع أهل الصحيفة من الحجّ، في خرق فاضحٍ ومشينٍ للأعراف القبلية في شبه الجزيرة. باعتراض حجيج يثرب عند الحديبية ببطن مكة لفرض الهدنة من أجل العودة للتجارة في أسواق الأحزاب بالشام. غير أن هذه الهدنة مع الأحزاب الموالين لبيزنطة أعطت الدولة الجديدة التي تأسست ببيعة الشجرة فرصةً سانحةً جداً لاستئصال التهديد الساساني لها في خيابر يهود وادي القرى الموالين للساسانيين. بما جعل فتح الحديبية نصراً ازدواجياً على البيزنطيين والساسانين معاً. ومهّد لفتح المسجد الحرام، ثم إخراج الأحزاب منه.