رغم أن أحكام الإرث بكتاب الله فيها حدود الله التي لا يجب التعدي عليها، إنما الانصياع لها من باب طاعة الرسول، فإن فقهاء السلف من أهل الجماعة قد عادوا إلى ما وجدوا عليه آباؤهم من الدين في فقه الإرث.
ومع مقارنة فقه الإرث “الجاهلي” مع فقه الإرث اليهودي فإنه لا يكاد يوجد فرق بينها، لسيطرة كهنة ملة اليهود على مسائل الفقه قبل نزول كتاب الله. وهم الذين لم تكن لهم مزاحمة الملة الآخرة من المثلثة المسيحيين الذين اتبعوا القانون الروماني منذ عهد الامبراطور جوستنيان في القرن السادس ميلادي. وظهور فتوى من الكنيسة تحض على اتباعه في مناطق الأمبراطورية البيزنطية، أو اعتماد قانون البلاد التي يعيشون فيها خارج الامبراطورية.
وطالما أن الأنثى ليست إنسانة في اليهودية عند بني إسرائيل باعتبار أنه ليس لها روح، فإنه لا إرث لها بحضور الذكور.
وتروي حكايا كتاب التناخ اليهودي في سفر العدد بالإصحاح 27 حكاية احتجاج بنات صلفحاد من سبط منسي بن يوسف أنهن حرمن من نصيب والدهن الذي مات في البرية عند التيه ولم يترك مولوداً منه يرث نصيبه من أرض الميعاد فقمن باستفتاء موسى كما جاء في الحكاية بالسفر المذكور :
(1) فتقدمت بنات صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن ماكير بن منسى من عشائر منسى بن يوسف. وهذه أسماء بناته محلة ونوعة وحجلة وملكة وترصة. (2) ووقفن أمام موسى والعازار الكاهن وأمام الرؤساء وكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع قائلات. (3) أبونا مات في البرية ولم يكن في القوم الذين اجتمعوا على الرب في جماعة قورح بل بخطيته مات ولم يكن له بنون. (4) لماذا يحذف اسم أبينا من بين عشيرته لأنه ليس له إبن. أعطنا ملكا بين إخوة ابينا. (5) فقدم موسى دعواهن أمام الرب. (6) فكلم الرب موسى قائلا. (7) بحق تكلمت بنات صلفحاد فتعطيهن ملك نصيب بين إخوة أبيهن وتنقل نصيب إبيهن اليهن. (8) وتكلم بني إسرائيل قائلا أيما رجل مات وليس له إبن تنقلون ملكه الى ابنته. (9) وإن لم تكن له إبنة تعطوا ملكه لإخوته. (10) وان لم يكن له إخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه. (11) وإن لم يكن لأبيه إخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب اليه من عشيرته فيرثه. فصارت لبني اسرائيل فريضة قضاء كما أمر الرب موسى.
سفر العدد بالإصحاح 27
والملاحظ أنه بعد نزول الوحي بعد استفتاء موسى من بنات صلفحاد فإن من صاغ أحكام الإرث هم بنو إسرائيل وليس موسى بعد امتثالهم لحكم توريث البنات ( المولودات) غير أنهم قاموا بتزويجهن فيما بعد إلى أبناء عمومتهن من سبط منسي تحت حكم عدم زواج البنت البكر إلا بموافقة وليها من زمرة العاصبين بالعشيرة و بذلك عاد الدر إلى مكمنه…
و يقوم الفقه اليهودي على مفهوم التعصيب أساسا مع تفضيل المراتب بالقرابة وهي البنوة والأخوة والعمومة وبنيهم وهنا يظهر الاختلاف بين فقه اليهود و فقه أهل الجماعة و السنة الذين كانت مراتب الإرث عندهم هي البنوة والأبوة ثم الاخوة والجدودة مرتبة واحدة. ثم العمومة وبنيهم. ويرجع هذا الاختلاف إلى كون الأب يمتلك ولده فلا يرث مع الأب، أي كان من تركة ابنه الهالك فالأب هو العاصب بالنسب، الذي يحرم من حضر الأقربين من الأولاد والحفدة وحتى الأم إذ أنها لا إرث لها من ولدها لكونها أنثى بينما يقع حرمان الأخوة من أي نصيب بتعصيب الأب….
وبالنظر لشدة تاثير الفقه اليهودي في أرض الحجاز حينذاك، فقد انحرف الأعراب بعد موت النبي محمد عند إعطاء تعريف للكلالة، واعتمد عتيق ابن أبي قحافة على منطلقات الفقه اليهودي في الإرث فتم جعل الكلالة هي غياب الولد والوالد. والحال أن الآية 176 من سورة النساء واضحة جداً في تعريف الكلالة بأنها من ليس له ولد فقط. وبذلك تم حرمان الإخوة من أي نصيب رغم وضوح الآية 12 و الآية 176 من سورة النساء في توريث الأخوة. ولو مع حضور الأب سواءً كان والداً أو جداً. وكما عادت حليمة ( زوجة حاتم الطائي) إلى عادتها القديمة فقد عاد الأعراب إلى الفقه اليهودي، وظهرت منظومة الشريعة السنية في الإرث متماهية مع شريعة اليهود.
ولما غاب نظام التعصيب عن أحكام الإرث في كتاب الله فيما تقوم أحكام الإرث بـ الشريعة اليهودية عليه، فقد أقحم الأعراب التعصيب في أحكام الإرث زيادة منه على ما نزل بكتاب الله متخفين بكذبة أن النبي محمد قد قال أحاديثاً في الغرض هم قد اعتمدوها. والحال أن النبي محمدا حاشاه أن يزيد حرفاً واحداً على كتاب الله، وبذلك ارتد الأعراب إلى ما وجدوا عليه آباءهم من جديد و تحايلوا على أحكام كتاب الله عند بناء شريعتهم المثنوية القائمة على الكتاب والسنة كما فعل المجوس المثنوية من قبلهم…
وعلاوة على بخس الأم لنصيبها الأوفر عند الإرث كلالة بحضور أحد الزوجين لفائدة الأب فيما يعرف بمسألة الغراويين المنسوبة بالروايات إلى زيد بن ثابت. فانهم قاموا بتوريث الأخ الشقيق والأخ للأب بالتعصيب مع المولودات. وكذلك فعلوا مع أبناء الإخوة، ثم الأعمام وبنيهم. والحال أن في هذا مخالفة صريحة لما نزل بكتاب الله لكون الأولاد ذكوراً و إناثاً يحرمون الإخوة من أي نصيب وبالتالي يحرمون الأعمام كذلك. غير أن الأعراب قد اعتمدوا مراتب الإرث في الشريعة اليهودية تحت نظام التعصيب الذي ما أنزل الله به من سلطان في الكتاب.