الترجمات خادعة في اغلب الأحيان ممن حاول التقيّد بالأمانة و النزاهة و ثابر عليها . فكيف بها مع ممن لم يتقيد بذلك أو تعمد التضليل بتغيير المعطيات مع سابقية قصد لغاية معينة ؟
يعتبر ابراهم في السرديات التناخية اليهودية أب الآباء أو أب الجمهور وهو الذي اخرجه يهوه من ارض ميلاده و عشيرته الى الأرض التي سيريها له و التي هي ارض الوعد بين نهر مصريم و النهر الكبير فرت . وخرج إبراهم من منطقة أرام النهرين و تحديدا من أورالكلدانيين حسب ” التوراة السبعونية ” باللغة الإغريقية و المعتمدة بالكنيسة المسيحية بينما نجد بالنسخة السفاردية المخطوطة بالخط المربع المنسوب للعبرية بأنّه قد خرج من أوركسيديم .
ذكر المؤرخ اليهودي الروماني المخضرم فلافيوس جوزيف (37-100 م) في كتابه “حوليات يهودية ” بالصفحة 49 منه حكاية ترجمة النسخة العبرية الى الاغريقية في عهد الملك بطليموس الثاني فيلا دي إلفي (285-247 ق م ) الذي حكم ايجيبت من العاصمة الإسكندرية في عصر ملوك الطوائف بعد اقتسامهم امبراطورية الإسكندر المقدوني اثر وفاته مسموما (323 ق م ) .وقد روي عن بطليموس الثاني ولعه بالتاريخ و بحب الاطلاع على حضارات الشعوب الأخرى وعندما اخبره ديمتريوس فاليريوس أمين مكتبة الإسكندرية عن كتاب القوانين اليهودية فقد طلب منه السعي في الحصول على نسخة منه مترجمة بالإغريقية ليتعرف بطليموس الثاني على تلك القوانين بحكم تواجد جالية يهودية بمدينة الإسكندرية ممن نالوا المواطنة و اندمجوا فيها .
سعى ديمتريوس في الأمر و كاتب الكاهن الأكبر بأورشليم ليرسل له الكتبة الأحبار وتم تجميعهم في جزيرة فاروس مع وضع كل واحد منهم بمنزل مستقل و معه كاتب متمرس في الإغريقية ثم تمت الترجمة و مطابقة النسخ المترجمة للسبعين حبرا كانا بينها تطابقا تاما كما روي عن ذلك و ظهرت ” التوراة السبعونية ” بالإغريقية وهي النسخة التي اقتبس منها يسوع و القديس بولس فيما بعد كما جاء ذلك في ” العهد الجديد” ثم اعتمدتها الكنيسة بعد ان أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع ميلادي بعد دخول الامبراطور قسطنطين للمسيحية .
ظهرت النسخة الإغريقية من التناخ اليهودي و المعروفة بالتوراة السبعونية بالإسكندرية وتم فيها ترجمة موضع اوركسيديم بأور الكلدانيين رغم ان أسماء المواضع و القرى لا تتغير في الترجمة . ولا يفهم سبب هذا الإبدال للاسم عند الترجمة و لا الغاية من وراءه .و بالتخمين لمحاولة معرفة السبب و الغاية فانه لا يمكن الا القول بان الكهنة الأحبار عند الترجمة قد أرادوا التباهي بكون أب الآباء في التناخ وهو ابراهم قد خرج من منطقة حضرية مثل بلاد الكلدانيين و ليس من منطقة جبلية تعيش على الرعي رغم ان ابراهم قد كان اراميا تائها على حد قول يعقوب كما جاء في سفر التثنية . و الارامي في اللسان هو ساكن المرتفعات .كما ان السرد التناخي لخروج ابراهم يفيد بكون ابراهم قد كان راعيا عند رحلته من أوركسيديم نحو حاران ثم من حاران نحو شكيم ثم عند قسمته الأرض قرب شكيم بينه و بين ابن أخيه لوط لمربع نهر “ها-يردن ” إذ كانت نحلة الأرض للوط منطقة سدوم و غمورة وما حولها بينما كانت نحلة إبراهيم بطن مورة على الجنوب من سدوم وعلى شرق نهر ها-يردن كل ذلك مع سير ابراهم في رحلته من اوركسيديم عبر حاران نحو شكيم مع ماشية صغيرة تتمثل في الضأن و الماعز .
وعليه فان المطابقات الطوبوغرافية الجغرافية بالقول بكون اوركسيديم هي اوريم الواقعة قرب الناصرية بجنوب العراق حاليا و يكون إبراهيم قد خرج منها و سار شمالا بمحاذاة غرب نهر الفرات الشنعاري / العراقي نحو أورفا الواقعة بجنوب تركيا حاليا بمحافظة غازي عنتاب فان هذه المطابقة تبدو اعتباطية لا تستقيم جغرافيا لعدم ضرورة الرحلة الطويلة جدا من شخص مرفوق بوالده تارح و زوجته ساراي و ابن أخيه لوط بن هاران مع ماشية صغيرة . ولا يفهم سبب الاصرار على جعل مدينة حاران هي مدينة شانلي-أورفا
و بتفكيك لفظة اوركسيديم لسانيا فهي قرية الكاسديين لوجود جذر الجمع “يم” في الأرامية العبرية فتصبح كسيديم أي انها قرية أبناء كاسد و بالبحث عن اسم كاسد في التناخ اليهودي نجد انه كاسد بن ناحور ابن اخ ابراهم وعليه فان القرية التي خرج منها ابراهم أصبحت تعرف باسم ذرية كاسد بن ناحور وهي القرية الواقعة في منطقة ارام النهرين فيما انه بتفكيك لفظة حاران لسانيا فهي الحرة لكون الألف و النون في الرامية الجنوبية هي أداة التعريف مثل السليم و سليمان بينما كان موقع شكيم يعرف بضيعة شكيم الكنعاني الذي قتله أبناء يعقوب بسبب ما فعله مع اختهم ومنطقة شكيم هي بطن مورة التي نزل فيها ابراهم بعد قدومه من حاران .
و باعتماد منهج الاستقصاء الجغرافي عند سرد رحلة عودة يعقوب من فدان ارام بعد هربه مع زوجاته الأربعة و أبنائه من عند خاله لابان بعد ان رعى له الماشية من ضأن و ماعز فان يعقوب قد بلغ جبل جلعاد من منطقة فدان ارام الواقع بمحاذاة أوركسيديم بمنطقة ارام النهرين بعد مسير سبعة أيام وهي ما تقدر بحوالي مائتين و ثلاثين كيلومتر بحساب مسير مرحلة يوميا أي ثلاثة و ثلاثين كيلومتر تقريبا و جبل جلعاد يقع على شرق نهر ها-يردن و بينهما مخاضة نهر يبوق. و الملاحظ انه في رحلة عودة يعقوب نحو شكيم قادما من فدان ارام و بعد لحاق خاله لابان به عند جبل جلعاد و اجراء الصلح بينهما عند حجر جلعيد فان يعقوب قد سار نحو نهر يبوق ثم وصل الى شكيم لملاقاة شقيقه عيسو/أدوم بعد يومين ولم يات في السرد بكونه قد عبر نهر ها-يردن من أجل الوصول نحو سكوت و شكيم وهو ما يفيد بكونه لا ضرورة من اجل الوصول الى شكيم بعبور نهر ها-يردن لمن يكون قادما من ناحية جبل جلعاد و مخاضة نهر يبوق
و باقتفاء الاتجاهات في رحلة يعقوب نحو فدان ارام في الذهاب و العودة فانه اتجه عند الذهاب نحو الشروق بما يفيد ان موضع فدان أرام يقع على الشرق من شكيم و فدان أرام يقع في منطقة أرام النهرين التي كانت تعيش بها امه رفقة قبل خطبتها لأبيه إسحاق وقيام مولى ابراهم ايلعازر الدمشقي بجلبها من هناك .و لئن كانت اوريم بجنوب العراق حاليا تقع على شرق نابلس التي تزعم الدوائر المسيحية الصهيونية بكونها شكيم رغم تهافت المطابقة فان الخرائط الصادرة عن تلك الدوائر لا تضع أوريم وجهة ليعقوب في رحلته انما تجعله يتجه نحو الشمال باتجاه شانلي أورفا من نابلس رغم وضوح اتجاه يعقوب نحو الشرق عند رحلته فرارا من شقيقه عيسوا باتجاه ارض خاله بأرام النهرين الموطن الأصلي لأبراهم.
أسماء الاتجاهات في عبرية التناخ هي مزراحه מזראחה عن تمام الشرق وهي زاوية بزوغ الشمس تحديدا و مقدمه מקדמה بالهاء المكانية في إشارة الى ارض بني قدمه و قدمه هو احد أبناء إسماعيل و يجاوره المديانيون واما الغرب فهو دوما ميمه מימה بالهاء المكانية التي تشير الى البحر الغربي او البحر الكبير بينما يسمى اتجاه الشمال صفونه צפונהأو ميشمول משמול و اتجاه اليمين متيمن מתימן أو نقبه נגבה بالهاء المكانية نسبة الى النقب .
لم يذكر كاتب سفر التكوين تفاصيل طوبوغرافية عن رحلة ابراهم من أوركسيديم عبر حاران وصولا الى شكيم غير ان رحلة يعقوب ذهابا و إيابا الى فدان أرام قد ذكر بها بعض المعطيات و المؤشرات الطوبوغرافية . اتجه يعقوب نحو ارض بني قدمه وهم أبناء قدمه بن إسماعيل المجاورين للمديانين وجميعهم من رعاة الإبل بما يستشف منه ان الأرض الواقعة شرق شكيم ودون عبور لنهر ها-يردن هي واقعة نحو الجنوب الشرقي و الطريق التي تشقها هي طريق قوافل الإسماعليين و المديانيين التي تجلب بضائع الشرق ما وراء منازل المديانيين و الإسماعليين مثل القافلة التي حملت معها يوسف نحو مصراييم و بذلك تكون حران ( الحرة ) في وسط الطريق عبر المحور الجنوبي الشرقي بين ارام النهرين و شكيم و يستحيل ان تكون حران واقعة على شمال شكيم بما يسقط المطابقة المسيحية الصهيونية بالزعم بكون حران هي شانلي اورفا الواقعة حاليا في جنوب تركيا بمحافظة غازي عنتاب فيما لا يمكن قطع المسافة من بعقوب بين نابلس بوصفها شكيم مع اوركسيديم /أورالكلدانيين مع المسير لعشرة أيام على التقريب و هي الرحلة التي يكون قطعها على امتداد حوالي ثلاثمائة و ثلاثين كيلومبر على اقصى تقدير بينما المسافة بين نابلس و اوريم بجنوب العراق مسافة تفوق مقدار الرحلة بأضعاف مضاعفة .
و يثارالتساؤل حول الداعي الذي جعل الكتبة الأحبار يقومون بإبدال اسم أوركسيديم بأور الكلدانيين عند الترجمة وهل كان الأمر مجرد غلط او كان من اجل التزوير ؟ و الحال انه لم يكن اسم الكلدانيين متداولا على عصر إبراهيم انما ظهر بعد ذلك بحوالي الف عام ثم لماذا لم يكتب اسم القرية التي خرج منها ابراهم من البداية في النسخة العبرية الأصلية باسم أور الكلدانيين طالما كتبت اسفار التناخ تحت أنظار الكاهن الحبر عزرا بأرض شنعار /العراق ؟
ورغم التنقيبات الأثرية التي مولتها جمعيات دينية بريطانية فان البعثة البريطانية تحت إشراف المنقب الأثري السير تشارلز ليوناردو وولي (1880-1960) و التي قادت اثني عشر حملة تنقيب منذ 1922 الى 1934 ورغم اللغط التي رافق ما توصلت اليه فإنها لم تفلح في البرهنة على وجود أي شاهد أثري على شخصية ابراهم بالقرب من زقورة أوريم الواقعة في محافظة ذي قار العراقية ولم يكن وولي جازما في هذا الصدد بعد نشر كتابه ” النبي إبراهيم ” عام 1936 و بذلك بقيت المطابقات المسيحية الصهيونية مهتزة جدا و متهافتة بعد أن خابت توقعات الجمعيات الدينية في العثور على دليل يبرهن على صواب تلك المطابقات .
وقد كان على من سار وراء تلك المطابقات الاعتباطية التفكر قليلا بعد دراسة السرد التناخي عن رحلة ابراهم ليعرف ببساطة ان قرية اوركسيديم هي قرية تعتاش على الرعي ولا يمكن أن تكون مدينة بها بناءات مدرجة مثل مدينة اوريم إذ خرج ابراهم من منطقة رعوية ثم استقر بشكيم وهي منطقة رعوية كذلك لذلك فإن من غابت عنه الجغرافية فقد راوغه التاريخ و تبقى مطابقات الدوائر المسحية الصهيونية اعتباطية لكونهم ينقبون في الأرض الخطأ.
ملاحظة : الخريطة من موقع الأنبا تكلا هيومانوت المسيحي ولا صواب فيها بعد السير في الأرض.