اغتيال الفقه

اغتيال الفقه

لقد وقع اغتيال الفقه الإسلامي منذ أن ثبَّت “الفقهاء / العلماء” مفهوم القضاء والقدر، لشرعنة الواقع وإسباغه بـ “الشرعية”. ومنذ أن قالوا بوجود وحيين اثنين للرسول الاكرم. والحال أنه وحي واحد أوحد.

ومنذ أن ابتدعوا قاعدة باب سد الذرائع، ودرء المفاسد أولى من جلب المنافع، مع الاقتصار على “العقل القياسي” في استنباط التشريع، واستعمال “العقل الترادفي” في التعامل مع كتاب الذكر الحكيم.

رغم أنهم قالوا بأن قاعدة فهمه هي بأنه يفسر بعضه بعضاً، ومن أعياه ذلك فعليه بالسنة. لكنهم يلجئون بسرعة إلى السنة دون بذل الجهد في التفسير. واقتصروا على المرويات في تفسير بعض ألفاظه.

وبذلك بقوا في مستوى السقف المعرفي لزمن الصحابة والتابعين بالنسبة لمعاني الكتاب. ثم تركوا الكتاب جانبا دون أن يحاولوا أن يطابقوا بين الوجود وهو “الكتاب المنشور”، وبين ما خطّوه بالمصحف وهو “الكتاب المسطور”. ثم راحوا يلبسون على تشريعات الرسول الأكرم (السنة = القانون) عند تنظيمه لدولة المدينة، الصبغة الأزلية والشمولية.

والحال أنها تخضع للصيرورة التاريخية بحكم أنها نسبية في الزمن، وأنها تعلقت بتنظيم مجال الحلال فقط. ثم ألحقوا بها أعراف أهل المدينة، واعتبروها في مكانة التشريعات القانونية النبوية، باعتبار توطن الرسول بالمدينة وأنه لم ينه عنها. وهكذا بدأت كرة الثلج بالتدحرج.

الحلال بين، والحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات. والمتشابهات هي المنهيات ولكنها ليست محرمات. إنما هي قواعد أخلاقية لا تختلف عن القواعد القانونية إلا بغياب ركن الجزاء. وهو المميز للقواعد القانونية، مع اشتراك القاعدتين في العمومية والتجريد والمرونة.

التحريم أزلي وشمولي. وهو من اختصاص الله وحده ولا يشاركه فيه أي بشر، ولا حتى رسول الله وخاتم الأنبياء. الذي اقتصر على تقييد الحلال، لأن الحلال يمارس مقيداً بالقوانين، وهي منهيات وقع سنها لمواجهة متطلبات الظرف الزماني والمكاني. ولا إطلاقيه لها في الزمن. بما يسمح بتنقيحها كلما اختلفت الأسباب.

إذ ان كل تراكم معرفي يؤدي إلى مجهود تشريعي قانوني، ولا يتسنى ذلك إلا بالتدبر لمواجهة الواقع بالنظر إلى المستقبل دون استعمال القياس، الذي يرجع فيه المجتهد قطعاً وحتماً إلى الماضي للبحث عن نموذج يقيس عليه. بما حصر الفقه في الماضوية وأضاع المستقبلية.

وأما رجال الكهنوت، فهم يعادون الجدل وينهون عنه، ويعتبرونه في مقام ما كان حكمه كراهة الحرمية. وبعضهم يحرّمه أصلا. والحال أنهم يتلون الكتاب الذي جاء فيه:

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (18) الكهف.

ثم ينعقون قائلين: نريد أن نحكم بما أنزل الله، وهم يرفضون الخضوع لما أنزل الله في الإنسان، وهو أكثر شيء جدلا من جدل الكون وباقي المخلوقات التي تطيع الله طوعاً. في حين يكون الإنسان بين الطاعةو المعصية.

فمن يعص الله إذاً ويرفض قانون الجدل الذي خلق الله عليه البشر، ومنحه التجريد بالعقل ليصبح انساناً؟ أليس هؤلاء المعادون للجدل؟

ألا يعلمون أن البشر ليسوا إلا ثدييات ولا إنسانية لهم إلا بالتجريد (المعرفة)؟ وجدل الإنسان (جدلية الطاعة والمعصية المرتبطة بالأوامر والنواهي و الأحكام و التشريع وفق قانون الحركة والتكيف والتغيير المستمر)؟

وأما التفاسير الموجودة للقرآن (لا أعتقد أن القران بحاجة إلى تفسير، إنما إلى تدبر) فهي كتب لا تخرج على كونها كتب تاريخ ليس أكثر، وأنها لم تتجاوز السقف المعرفي للعصر الذي كتبت فيه.

وقد تركوا الكتاب وراحوا يعتمدون كليا على المرويات، رغم أنها أدلة يخالطها الاحتمال. وقد وقعوا في عوائق إبستمولوجية كثيرة جعلت تفسيراتهم تختلط بعدة أخطاء في النتائج وعديد من التناقضات.