وهَم “القرآنيون” لما واجهوا عفن التراث السنّي، واكتفوا بإنكار الفقه والتاريخ، مع ازدراء لها مثل الذي عجز عن ارتقاء النخل لجني الرطب، فقال عنها شيص بدل الهدم واعادة البناء. وهذا أسلوب النعامة التي تطمر الرأس في التراب.
فيما برعوا في تخليص اللسان من اللغو، غير أنهم تورطوا في بحر رمال متحركة بالتوغل في الشقلبات اللسانية، التي رمت بهم في أحقاف الرمزية الغنوصية.
وأعاد بعضهم شطحات ماني بن فاتك النبي الكذاب بعد عيسى إلى السطح من جديد، ونشأ منهم تيار يزعم أن القرآن نزل على عيسى واستولى عليه محمد، وما هم فيما تحصحص إلا شياطين الغنوصية.
كانت حركة القرآنيين تجميلية طوباوية ولا غير، بعد أن أرادوا اجتثاث النص من التراكمات المعرفية المتواشجة به. إذ خلطوا بين اكداس المرويات من جهة، وبين المعرفة بالتاريخ بقراءة منهجية من جهة أخرى، وجعلوا أخبار التاريخ الذي لم يحققوا فيه مجرد حكايات، بحكم ما-قبلي يخالف منهج المعرفة. وهو ما شكّل لهم عائقا معرفيا في فهم صيرورة المفاهيم الفقهية، عبر زخم تراكمات السلف من الآباء، بما عاقهم أيضا عن الولوج إلى كنه الكارثة المعرفية الفقهية التي وصلنا اليها، والتي تحنّط بها الفكر الفقهي وارتد ذلك على السعي لتجديد العلوم.
ولئن اعتكف أهل الجماعة والسنة على اجترار اقتباسات “أئمة الفقه” من تراث الأحبار في “المدراش” و “الجمارة”، فقد ألبس “علماء الكلام” ما في فلسفة اللاهوت المسيحي على مبحث العقيدة، والذي تخيل كهنة “علم الكلام” أنهم شرحوا فيه الإيمان في كتاب الله. فأبدلوا البعض منه، وبنوا لهم تحت ما نفثوا من عُقد “إيماناً” موازياً. اقتبسوا فيه أيضاً من اللاهوت “اليهو_مجوسي” الأشكنازي لمنطقة مدينة بخارى وما حولها من خصوصية “تمجس” يهود التناخ الفريسين(البارثيين)، وفتل جميع هؤلاء حبلاً اعتصموا به بدل أن يعتصموا بحبل الله، وكتبوا الكتب بأيديهم وقالوا عنها أنها من عند الله، فاشتروا الضلالة بالهدى.
وظهرت كتب الحديث بعد ظهور كتب تقعر النحاة أعاجم اللسان، ومعاجم لغو الأعراب، وسقط الفقه في غيابة الجبّ التي تقوقع فيه أهل السند (الزنادقة الذين وقع اشتقاق اسمهم من لفظة زند بالفهلوية وهي لفظة السند). إذ أن السند لا يكون إلا لما كاد أن يسقط متهالكا من التهافت.
ولم يشذّ الشيعة الإمامية عن ذلك، فقد عمد كهنة الغيبة الصغرى منهم إلى حياكة أول “تلاميد” كتب الحديث عندهم مع “الكافي” بعد ظهور عجول السامري الستة من أشكيناز أهل الجماعة والسنة، ثم واصل كهنة كنيسة مال الخمس، التي أقامها الشيخ المفيد الكذاب وأعاد فيها رواج ميثولوجيا عبادة رب عالم الظلمات أنجي / أنكي / أنگي في شخصية الغائب.
ولعل من الوجيه القول إن فكر القرآنيين كان شبيها بجسم بلا رأس (لما فيه من علة التراث الفقهي) فحزّوه، وبلا ساقين لعلةٍ في تراث المرويات، فبتروها. وذلك عوضاً أن يعالجوا علة صداع الفقه التراثي الأعمى لجعله مبصراً، بهدم ما تهالك منه بتصويبه ومعالجة العرج والهرج في معرفة أخبار من سبق، بقراءة التاريخ بمنهج السير في الأرض، دون ازدراء الفقه والتاريخ كمعارف لها مناهجها الخاصة بها.
إذ أنه كما كان تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم، فإن تاريخ الفقه هو تاريخ أخطاء الفقه. فيما يبقى التاريخ في تمحيص وغربلة دائمة على وقع اكتشافات الشواهد الأركيولوجية والإيبوغرافية، من أجل إحكام وضبط الأخبار من مصادر كتب الروايات، وذلك بعد إخضاعها لمنهج الترجيح بعد الاستقصاء.
وكان من الوجوب عند تصويب الحراك لمواجهة عفن التراث من ظهور جيل جديد يعتصم بحبل الله وبالمنهج الحنيف، دون طمر الرأس في الرمال كحال القرآنيين. ودون قفز وتعالٍ كحال الغنوصيين الرمزيين بعد أن لاذ “يهود” التراث باجترار معارفٍ هي كأسمالٍ بالية لها أكثر من ألف عام. فاليهودي هو زعم أنه “ابن الرب” والمحافظ على عادات الآباء المقدّسين، بينما القداسة لله وحده.
ولما أشار الله في الكتاب/الرسول من أنها الأرض المقدسة التي أحجم من تبعوا موسى عن دخولها لوجود قوم جبارين. كذلك قال القرآنيون عن التراثيون بعد أن رأوا آيات الله المبصرة ولكنهم أحجموا عن تصويب الفقه وترجيح التاريخ، فلم يدخلوها وتاهوا في أحقاف الرمز وشقلبات اللسان.